الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة، فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه واشتد غمه، فعند ذلك قال: {إِنّي مَسَّنِىَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} السادس: قال في بعض الأيام: يا رب لقد علمت ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك، ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيمًا، ولابن السبيل معينًا، ولليتامى أبًا! فنودي من غمامة يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق؟ فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه، وقال منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال: {مَسَّنِىَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وقد ذكروا أقوالًا أخرى، والله أعلم بحقيقة الحال، وسمعت بعض اليهود يقول: إن لموسى بن عمران عليه السلام كتابًا مفردًا في واقعة أيوب، وحاصل ذلك الكتاب أن أيوب كان رجلًا كثير الطاعة لله تعالى مواظبًا على العبادة، مبالغًا في التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، ثم إنه وقع في البلادء الشديد والعناء العظيم، فهل كان ذلك لحكمة أم لا؟ فإن كان ذلك لحكمة فمن المعلوم أنه ما أتى بجرم في الزمان السابق حتى يجعل ذلك العذاب في مقابلة ذلك الجرم، وإن كان ذلك لكثرة الثواب فالإله الحكيم الرحيم قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام الطويلة والأسقام الكريهة.وحينئذٍ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة، وهذه كلمات ظاهرة جلية وهي دالة على أن أفعال ذي الجلال منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد، والحق الصريح أنه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23].المسألة الثالثة:لفظ الآية يدل على أن ذلك النصب والعذاب إنما حصل من الشيطان ثم ذلك العذاب على القول الأول عبارة عما حصل في بدنه من الأمراض، وعلى القول الثاني عبارة عن الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب إلقاء الوساوس، وعلى التقديرين فيلزم إثبات الفعل للشيطان، وأجاب أصحابنا رحمهم الله بأنا لا ننكر إثبات الفعل للشيطان لكنا نقول فعل العبد مخلوق لله تعالى على التفصيل المعلوم.أما قوله تعالى: {اركض بِرِجْلِكَ} فالمعنى أنه لما شكى من الشيطان، فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله إليه بأن قال له: {اركض بِرِجْلِكَ} والركض هو الدفع القوي بالرجل، ومنه ركضك الفرس، والتقدير قلنا له اركض برجلك، قيل إنه ضرب رجله تلك الأرض فنبعت عين فقيل: {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي هذا ماء تغتسل به فيبرأ باطنك، وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء اغتسل فيه وشرب منه.والمفسرون قالوا نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله، وقيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها.ثم قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} فقد قيل هم عين أهله وزيادة مثلهم، وقيل غيرهم مثلهم، والأول: أولى لأنه هو الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة، ثم اختلفوا فقال بعضهم: معناه أزلنا عنهم السقم فعادوا أصحاء، وقال بعضهم: بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا.وقال بعضهم: بل تمكن منهم وتمكنوا منه فيما يتصل بالعشرة وبالخدمة.أما قوله: {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} فالأقرب أنه تعالى متعه بصحته وبماله وقواه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك، وقال الحسن رحمه الله: المراد بهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا.ثم قال: {رَحْمَةً مّنَّا} أي إنما فعلنا كل هذه الأفعال على سبيل الفضل والرحمة، لا على سبيل اللزوم.ثم قال: {وذكرى لأِوْلِى الألباب} يعني سلطنًا البلاء عليه أولًا فصبر ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلناه إلى الآلاء والنعماء، تنبيهًا لأولي الألباب على أن من صبر ظفر، والمقصود منه التنبيه على ما وقع ابتداء الكلام به وهو قوله لمحمد: {اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا داود} وقالت المعتزلة قوله تعالى: {رَحْمَةً مّنَّا وذكرى لأِوْلِى الألباب} يعني إنما فعلناها لهذه الأغراض والمقاصد، وذلك يدل على أن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام في هذا الباب قد مر غير مرة.أما قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} فهو معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك.واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وفي الخبر أنه حلف على أهله، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها، ويبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان، ويبعد أيضًا ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برىء، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها، وهذه الرخصة باقية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بمجذم خبث بأمة فقال: «خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة».ثم قال تعالى: {إنا وجدناه صابرًا} فإن قيل كيف وجده صابرًا وقد شكى إليه، والجواب من وجوه الأول: أنه شكى من الشيطان إليه وما شكى منه إلى أحد الثاني: أن الألم حين كان على الجسد لم يذكر شيئًا فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين فتضرع الثالث: أن الشيطان عدو، والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر، ثم قال: {نعم العبد إنه أواب} وهذا يدل على أن تشريف نعم العبد، إنما حصل لكونه أوابًا، وسمعت بعضهم قال: لما نزل قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان عليه السلام تارة، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن قوله تعالى: {نِعْمَ العبد} في حق سليمان تشريف عظيم، فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه، وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه، فكيف السبيل إلى تحصيله.فأنزل الله تعالى قوله: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الأنفال: 40] والمراد أنك إن لم تكن {نِعْمَ العبد} فأنا {نِعْمَ المولى} وإن كان منك الفضول، فمني الفضل، وإن كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير. اهـ.
ومثله قول النابغة: الطويل: قال القاضي أبو محمد: وقد قيل في هذا البيت إن ناصبًا بمعنى منصب، وأنه على النسب، أي ذا نصب، وهنا في الآية محذوف كثير، تقديره: فاستجاب له.وقال: {اركض برجلك} والركض: الضرب بالرجل، والمعنى: اركض الأرض. وروي عن قتادة أن هذا الأمر كان في الجابية من أرض الشام. وروي أن أيوب أمر بركض الأرض فيها، فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها، فذهب كل مرض في داخل جسده، ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه. وروي أنه ركض مرتين ونبع له عينان: شرب من إحداهما، واغتسل في الأخرى وقرأ نافع وشيبة وعاصم والأعمش: {بعذاب اركض} بضم نون التنوين. وقرأ عامة قراء البصرة: {بعذاب اركض} بنون مكسورة و: {مغتسل} معناه: موضع غسل، وماء غسل، كما تقول: هذا الأمر معتبر، وهذا الماء مغتسل مثله. وروي أن الله تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا، ورد من مات منهم، وما هلك من ماشيته وحاله ثم بارك في جميع ذلك، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال. وروي أن هذا كله وعد في الآخرة، أي يفعل الله له ذلك في الآخرة، والأول أكثر في قول المفسرين. و{رحمة} نصب على المصدر.وقوله: {وذكرى} معناه: موعظة وتذكرة يعتبر بها أهل العقول ويتأسون بصبره في الشدائد ولا ييأسون من رحمة الله على حال. وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه، فيلقاها الشيطان في صورة طبيب، ومرة في هيسة ناصح وعلى غير ذلك، فيقول لها: لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرىء، لو ذبح عناقًا للصنم الفلاني لبرىء ويعرض عليها وجوهًا من الكفر، فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب، فيقول لها: ألقيت عدو الله في طريقك؟ فلما أغضبته بهذا ونحوه، حلف لها لئن برىء من مرضه ليضربنها مائة سوط، فلما برىء أمره الله أن يأخذ ضغثًا فيه مائة قضيب. والضغث القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجرة الرطب، قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه، ومنه قولهم: ضغث على إبالة. والإبالة: الحزم من الحطب. والضغث: القبضة عليها من الحطب أيضًا، ومنه قول الشاعر عوف بن الخرع: الطويل: ويروى متطيب. هذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حد زنا لرجل زمن، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيها شماريخ مائة أو نحوها، فضرب به ضربة، ذكر الحديث أبو داود، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وجميع أصحابه، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به، وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات. اهـ.
|